آخر الأخباردوليسياحة وآفاق

الجزائر .. “أرض الإسلام والأصالة”

اعتدت بعد زيارة أي دولة أن أكتب عنها انطباعي، وقبل أيام عدتُ من زيارة من الجزائر، بدعوة كريمة من مؤسسة سيدي الشيخ التابعة للطريقة الشيخية الشاذلية.

وفي زحمة الأعمال والأشغال لم تتح لي الفرصة شرفَ الكتابة عن هذا البلد الكريم، والقطر الإسلامي العظيم، وأرى واجبًا عليَّ كتابة بعض ما شاهدتُه، وتسطير بعض انطباعي.

ابتداءً الجزائر من البلدان العربية والإسلامية المحبوبة، وأهلها محل قبول وترحيب لدى الشعوب العربية والإسلامية؛ لما يمتازون به من خلق إسلامي كريم، وصفات عربية أصيلة.

ثم إن معرفتي بهم قديمة، فقد كان لي صديق جزائري في اليمن، اسمه توفيق، وقد حببَّ إليَّ الجزائر أرضًا وإنسانًا لما رأيتُ فيه من خصال كريمة، تجبرك على حبه، وحب بلده.

ثم تعرفت بعد ذلك على جماعة من الأحباب الجزائريين، فزاد حبي لهم، وبعضهم من لا يغيب عني في كل دعاء.

ولا بد أن تعلم أنك حالما تطأ قدمُك أرضَ الجزائر تشعر وكأنك انتقلت من زاوية من بلدك إلى زاوية أخرى فيها، فلا تشعر بالغربة بينهم، ولا بالبعد عن الأهل والوطن، فترابها وطنك، وكل الجزائرين أهلك.

ولهم ود خاص -لمسته بوضوح- لأهل اليمن، فحينما كنا نتعرف عليهم، ويذكر كل شخص من الحاضرين بلده -وكنا من قرابة عشرين بلد- كان الترحيب الحار، والتكبير ينطلق حال ذكر اسم اليمن، ويبدأ السلام والعناق من جديد، ويذكروني بأنهم منا، وأن أصولهم يمنية، وأنهم من القبيلة الفلانية التي تعود أصولها إلى اليمن.

وكان كل شيخ من الحاضرين يُعرَّف باسمه ولقبه، عدا الفقير الذي ظل اسمي منذ القدوم حتى الذهاب الشيخ اليمني، وفي حال ذكروا الاسم واللقب؛ كان لا بد من إضافة اليمني!

ثم إنه شعب قد غُذي حب القدس، وعشق فلسطين مع حليب الأمهات، فلا تكاد تصادف أحدًا إلا وتجده يعيش ما تجده الأمة اليوم من اعتداء على عزة هاشم؛ فلا تكاد تحضر محضرًا، ولا جماعةً ولا جمعةً، إلا وفلسطين قلب الحدث.

شدني أنه حينما ينتهي مجلس ما، أو تختتم فعالية من الفعاليات، فإن الجميع يتداعى بهمة عجيبة للاجتماع وقوفًا للدعاء لأهلنا في غ*زة المكلومة بحضور قلب، وشعور بالمسؤولية.

تذكرت في خضم هذا الشعور مقولة الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين: “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” ورأيتُ الشعب يعيشها.

وهي عبارة من يستشف المستقبل؛ فكأنه فطن أنه عما قريب سيأتي من يجعل هذا الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية قضيةً ظالمة، فاستبق الحدث، ووطن في هذا الشعب الأبي الولاء لهذه القضية على كل حال.

والقوم أهل كرم أصيل، فيجود لك عن عوز، وكله طرب وسرور، ويرى لك الفضل عليه إذ قبلت منه ضيافته.

والتدين أصيل فيهم، وشبابهم يحب الدين ويميل إليه، ويعظم أهله، ويشعر بالولاء له، ولا يغرنك بعض المظاهر التي تكسو ظاهرهم، فتحت جلد كل واحد منهم شخص تقي بالقوة، إن لم يكن بالفعل، وقد رأيت من ذلك مواقف يطول سردها.

والشعب الجزائري شعب على فطرته، فمن يعيش في أعلى هرم السلطة مثل من يعيش في القاعدة، البساطة والتواضع وبذل البشر والطيب سيما عامة فيهم.

بعد إحدى اللقاءات دعانا والي الولاية لتناول الطعام، وكانت بعض القيادات العليا في الشرطة والجيش حاضرًا، وارتضى أن يجلس عند الباب؛ حتى يتيح المجال للضيوف، وحينما رمقتُه قدمتُ له بعض الطعام الذي كان قريبًا من الضيوف، وبعيدًا عنه، فتقبله بطريقة مملوءة بالتواضع الحقيقي، والفرح المشع، وتناوله، ثم ناوله شخصٌ آخر شيئًا فتقبله بنفس الطريقة، وحينما فرغ الكرسي الذي بجانبي طلبت منه التقدم، والجلوس على الكرسي فلبى مسرعًا، ولكن صادف مجيء شخص وجلس على الكرسي، فعاد دون أي تذمر أو ضجر، وحينما خرجت سارع بالسلام، وأزاح طاقيته من على رأسه وبقي يمشي معي بانحناء مخجل لي حتى وصلت إلى خارج الجامعة!

علمت أنه شعب أكبر من المناصب، وأعلى من الرتب العسكرية والمدنية، وأن الشخص يتكبر حينما يشعر أنه أُعطي شيئًا أكبر منه، وأما من كان أصيلًا فيعلم أن كل هذه بهارج تزول.

وأختم بموقف حُفر في وجداني حفرًا، وأثار مني كل الحب والإجلال لهذا الشعب الكريم.

فقد خرجت من إحدى الجلسات، وسبقني المشايخ إلى قاعة الطعام المجاورة لمكان الحدث، فمشيت برفقة شخص أصر أن يوصلني بسيارته.

طلب مني الانتظار حتى يذهب ويأتي بالسيارة، فبقيت منتظرًا، وإذ بشاب يأتي ويسلم علي، ويسألني من أين أنا، وعن اسمي، فبادلته الترحيب بالترحيب، والبشر بالبشر، ومن هيئته يظهر عليه العوز، وبقينا نتبادل أطراف الحديث؛ حتى وصلت السيارة فاستأذنته وركبت السيارة.

حينما صعدت السيارة ناول السائقَ كيسًا كان بيده، وقال له: هل يمكن أن تعطي هذا للشيخ؟ تعجبت من موقفه، وأشرت إليه شاكرًا وممتنًا.

وحينما وصلت محل سكني، وناولني السائق الكيس، كان فيه علبة زيت زيتون جزائري نقي، وكيس آخر من التمر الجزائري الأصيل، ولعل ذلك هو كل ما يملك ذلك الشاب.

فهمت من موقف الشاب في ذلك المكان، ومن طريقة مناولته، ومن هيئته أنه كان يحمل هذا الكيس ليهديه لشيخ من المشايخ الحاضرين، بغض النظر عن من هو هذا الشيخ، فقط أراد أن يبذل شيئًا، ولكن شعر أن هذا شيء قليل، وخجل من مناولته، وليته يعلم أن هديته وقعت من قلبي موقعًا الله وحده يعلم موقعها، وأن علبة الزيتون جعلتها أمامي في المطبخ أراها كلما دخلت أو خرجت، وأنني لا أتذكر ملامحه جيدًا، ولكن قلبي يتذكر موقفه وشهامته التي أخجلتني.

حفظ الله الجزائر، وكل بلاد المسلمين، ووحد شملهم، ولم شعثهم، وألف بينهم، ورص صفهم، وجعلهم يدًا واحدةً على عدوهم، وأحيا الدين فيهم، وأنبت اليقين في قلوبهم بعافية تامة

كتبه/ مختار بن هاشم جامل



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى